في قبو لا يصله الشمس، بإحدى شوارع لندن.. رأيت خريطة تحمل ملامح عالم عربي، تصور انطباعات ماضيه ومستقبله المحتمل، فيها تسجيلات لجباله وبحاره، وطعامه ومجتمعاته، وبلدانه الحالية والسابقة- وللحظة ظننت أنها تنبأت ببلدانه المستقبلية. لم يقتصر الأمر على صور للعالم العربي فحسب، بل امتدت إلى أمريكا اللاتينية، والصين، وشرق آسيا، وآسيا الوسطى، وإيران والهند، وصولاً إلى سواحل غابون. خريطة متعددة الأزمان والأمكنة، مرسومة بألف طريقة وطريقة... كانت خريطة مدروسة، مكتوبة وليست مرسومة، في مخطوطات إنجليزية مصنفة متروسة على رفوف قبو مكتبة مستقلة صغيرة، لكنني وأنا هناك شعرت أنني في بطن ثكنة عسكرية استخباراتية.
صحيح أن للقبو المظلم دور في خلق هذا الشعور الدرامي، وكذلك الجرعة المركزة التي يقدمها لك قسم العلوم الإنسانية والسياسية، لكن هذا الشعور لم يكن مجازيًا على نحو تام، ففي مثل هذه المكتبات تلمس جانبًا فعليًا من عمليات استقصاء زخمة للعالم…. ليس ثمة موضوع محصور في كتاب واحد، بل تجد كتبًا متعددة تتجادل بين الميول اليمينية واليسارية، وتتبارى في رسم موضوعات الدراسة ضمن أطر الحقيقة المناسبة لمركزيات الكتّاب والباحثين. عناوين كثيرة لكتّاب غربيين: "الطريق إلى ميدان التحرير” لجاردينر، "المدخل إلى إسرائيل” لروبين، "موت ماو” لبالمر، ”النيل" لويلكنسون، و"صناعة تنجانيكا“ لليستول. وغيرها الكثير من المواضيع، منها ما لم يخطر ببالك يومًا التطرق إليها. وبينما كنت أقرأ هذه العناوين٬ وضحت لدي الصورة عندما تفحصت كتابًا بعنوان: "نهاية اللعبة العثمانية"، لأرى على ظهره مراجعة مادحة من هنري كيسنجر، الوزير الأسبق للخارجية الأمريكية.
هذه الأعمال ليست مجرد مبادرات تقام لأفراد متطلعين وشغوفين فحسب، هذا ما يبوح به كيسنجر بحضوره، وكأنه يؤكد لنا: ”أنا أيضًا معني بهذا“. فهذا الزخم من الإنتاج، تقف وراءه مراكز وجامعات ومؤسسات عديدة، وربما ذات أبعاد استراتيجية. وإلا كيف يمكن أن يتم تأمين الوقت لشخص ليخرج بكتاب مخصص ومحدد مثل الذي رأيته على إحدى الرفوف: "الساحل الشمالي لغابون حتى ١٨٧٥"؟ لا أعتقد أن هذا موضوع يحظى بدرجة كبيرة من الاهتمام بالسوق الإنجليزي حتى يكون الكتاب مجديًا أو مربحًا بالنسبة للكاتب، فلقد كان الكتاب ممتلىءً بالغبار. و لكن نظراً إلى وزن الكتاب المنبطح على الرف، لا يبدو أن هذا كان مشروعًا جانبيًا أقدم عليه الكاتب بعد ساعات دوامه الرسمي. لذا، لا بد أن الوقت قد تم تأمينه له، وذلك من خلال مؤسسة معنية بهذا الإنتاج، وهذا فعلًا ما يؤكده سطر مكتوب على غلاف الكتاب يقول: ”أبحاث أوكسفورد بالشؤون الأفريقية“.
******
وسط هذه التأملات، تبادر إلى ذهني كتاب "في الأدب الصهيوني" لغسان كنفاني، وكأنني أمام هذه المكتبة وعملياتها بدأت أستوعب أهمية مشروعه وقيمة نظرته إلى القوة التي تحملها الكتابة والدراسة والتأليف. يقدم كنفاني في هذا الكتاب دراسة للأعمال الأدبية الصهيونية التي سبقت تأسيس الكيان الإسرائيلي والتي كانت جزءًا أساسيًا في التكوين لكينونته السياسية والإجتماعية. من خلال قراءته لعشرات من الأعمال الأدبية الأوروبية التي يرى أنها لعبت دورًا تكوينيًا للصهيونية، يتطرق كنفاني في الكتاب إلى تحليل سيكولوجي اجتماعي لهذه الأعمال، محللًا فيها أساليب الخطابة الحراكية التي تضمنتها هذه الأدبيات، وأشكال البطولة التي أنشأتها، وكذلك التحولات في اللغة العبرية على مدى هذه الأعمال من لغة دينية إلى قومية، وإلى النظرة الاستعلائية التي تضمنها هذه الآداب نحو الشعوب الأخرى. فما يقوم به كنفاني هو استقصاء عميق لأصول المستعمر الثقافية والسيكولوجية؛ وكأنه يكتبه لينزع عنه الغموض ويتمكن ليس فقط من مواكبته بل من السيطرة عليه.
ورغم وجود العديد من الكتاب العرب الذين بادروا بإنتاج معرفة قيمة عن الآخر والمستعمر، ونظروا إلى مجتمعات وأمكنة خارج الإطار العربي، إلا أن غسان كنفاني جاء إلى ذهني بشكل خاص تقديرًا لما تحمله تجربته الكتابية من معانٍ. فهذه الشخصية الفلسطينية، التي عاشت نكبة التهجير وكانت في صلب العمل النضالي والسياسي لاستعادة فلسطين، لم يمنعها ذلك من إدراك الكتابة كوسيلة للتأمل الذاتي والمجتمعي، واستيعاب المستعمر، وبناء أفكار ومشاريع سياسية حيوية، وكطاقة تتغلغل في نفس المتلقي وتحفزه على الحراك. يمكن الافتراض هنا، أن هذه الرؤية التي لازمته لإمكانية تحقق أبعاد سياسية ووجودية في الكتابة، والعلاقة اللا لبس فيها بين السياسة والثقافة، هي التي دفعته - وبطريقته الخاصة - إلى التنسط الى المحتل من خلال أدبه، وفي الوقت نفسه استخدام الكتاب في سعيه للتغلب عليه.
فما يقوم به كنفاني في دراسته للصهيونية وإعادتها إلى أصولها الثقافية يحمل بالفعل الكثير من العمق. من جانب، بينما يسعى المستعمر لتصنيف فلسطين كموضوع على رف في مكتبة، لا يولي كنفاني اهتمامًا لمحاولات المستعمر بتشييء فلسطين وموضعتها، بل يقوم بالعكس تمامًا، حيث يجعل من المستعمر ذاته موضوعًا لدراسته. ولكن ما يُعد أهم من ذلك برأي، هو تصدي كنفاني لمحاولات المستعمر الغربي بحجة الحداثة أن يخلق هالة عقلانية حول نفسه، فاصلاً عقله عن ذاته الثقافية والعقائدية والدينية. فمن خلال تحليل كنفاني لهذه الحركة الاستيطانية الأوروبية وسياستها من منظور أصلها الثقافي والديني، ينفي المزاعم الأوروبية عن العلمانية والعقلانية، التي عادة ما تدعي الانفصال ما بين ما هو خاص بالثقافة من جهة والسياسة من جهة أخرى.
وكأنه يقول لنا: انظروا إلى مكتباتهم ونصوصها، وادرسوا أشكالها ونظمها ومناهجها، فهي المستعمر كله، بما فيه أن هذا المستعمر له بنية ثقافية وسياسة وأخلاقية ودينية وعقائدية، فلا فواصل بينهما. وكذلك وكأنه ينبهنا بأن ادعاء العقلانية الذي يحاول المستعمر من خلالها السماح لنفسه بدراستنا ، والتي ينظر إلى ثقافاتنا ومجتمعاتنا ومعتقداتنا على أنها بربرية ورجعية وأقل شأنًا من عقله الموضوعي، هو في حقيقته انعكاس لمفهوم ثقافي وروحي لديهم في استيعابهم لنا ولنفسه، وفقر إنساني في نظرتهم للغير داخل عقائدهم الحداثية. فمن الخطورة البالغة على ذواتنا أن نقبل تعريف المستعمر لذاته ولنا بحكم ما يدعي أنها عقلانية متجلية، دون إدراك الطابع الثقافي لمنتجاته الفكرية والسياسية.
وهنا، من بين رفوف القبو، وفطنة كنفاني، نعود لننظر إلى هذه المكتبة وكتبها في محاولات رصدها للعالم وإنتاجه في آن واحد. من جهة، نقرأها كعملية لترجمة العالم وتدجينه للمتلقي الغربي، ليستشف من خلالها علاقته بالنسبة إليه.
وقد نرى فيها أيضًا مشروعًا تشكيليًا، ثقافياً وعقائدياً. وهنا العملية الأخطر؛ فهذه الأدبيات لا تعمل على استقصاء العالم فحسب، بل إعادة إنتاجه. نرى هذه العمليات قائمة في الكتب التي تحتضنها رفوف القبو، تلك الكتب التي تعمل على صياغة عالم بالإنجليزية، ربما لتشجع صياغة عالم حداثي إنجليزي. وقد تبين على نحو أوضع إذا تأملنا القبو فضائيًا: كتب الاقتصاد مثلاً عند عتبة الدرج بجانب المدخل، والطب بقربه بجانب التكنولوجيا، أما الشرق الأوسط فهو بقرب العلوم السياسية، والدين عند السيكولوجيا. وكأنك تلاحظ أن هذه المكتبة، في تقسيماتها، تطرح أسلوباً ثقافياً عقائدياً حداثي لإستيعاب العالم. نتأمل هنا في أشكال النظم السائدة اليوم، لنلاحظ أن هذه التقسيمات تتجلى من بطون الكتب إلى خارج جدران المكتبات وإلى عوالمنا.
يبقى السؤال هنا: أي صيغة ممكنة للعالم تنتظرنا نحن في مضمون مخطوطاتنا؟
By 7f1607f6-ec58-42e5-89c9-7ecdd29ff769•September 3, 2024
في المجالات الفكرية، لا يرتبط انجذابنا للطروحات دائمًا بتوافقها مع الواقع، بل بكثير من الأحيان إلى تناسق الأفكار وبنيتها المتماسكة داخلياً. لكن الاعتماد على نظريات جاهزة دون مراعاة تعقيدات الواقع يؤدي إلى تبسيط الظواهر وفقدان الفهم العميق، مما يضعف القدرة على التعامل معها بفعالية.
In this post, I am reflecting on two different interiors that share some commonalities: Luxury Resorts and workplace ‘Safe Spaces’. I find that both have a shared propensity for producing idealised, sanitised and utopian-like worlds in which uncomfortable realities are swept under the rug and replaced with more convenient ones.