في الفنون الأدبية، كما هو الحال في الرسم والمسرح، ما يشدّنا إلى عوالم هذه الفنون ليس بالضرورة دقتها في تمثيل الواقع، بل التناسق الداخلي للعناصر التي يبتكرها الفنان. الإحساس بمصداقية العمل ينبع من انسجام تلك العناصر مع بعضها وقدرتها على خلق عالم مترابط وقابل للتصديق ضمن إطار الفن ذاته، وليس من خلال محاكاة العالم الحقيقي بدقة. فعندما تقرأ رواية خيالية، على سبيل المثال، وتشعر بأن هناك عنصرًا أو شخصية تتناقض مع المنطق أو القوانين التي تأسس عليها عالم الرواية، فإن هذا التناقض قد يهدم تجربتك ويفقدك إحساسك بالاندماج في القصة. إذن، اقتناعك بالعمل ليس مرهونًا بتمثيله للواقع، بل بتماسك بنيته الداخلية.
وهذا ينطبق أيضًا على المجالات الفكرية. فكثيرًا ما نجد أنفسنا منجذبين إلى أفكار تبدو مترابطة ومقنعة، ليس لأنها تعكس الحياة بدقة، بل لأنها عُرضت بطريقة منطقية وجذابة، مما يجعلها تبدو وكأنها تقدم حلولًا بسيطة لتحديات معقدة. ولكن، كما قد تسحرنا الروايات بتناسق عناصرها، يمكن أن تجذبنا بنية الأفكار المتماسكة حتى وإن لم تكن متطابقة مع الظروف الحقيقية. في العديد من المجالات الفكرية التي تسعى لتحليل المجتمعات وتقديم طروحات اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية، عدم التوافق مع المعطيات الفعلية يحمل عواقب. فالإعجاب بالكمال النظري قد يعمينا أحيانًا عن رؤية التعقيدات الحياتية. وعند محاولة تطبيق هذه الأفكار في الممارسة أو اتخاذها كمرجع للتصرف، قد تظهر تناقضات مع التفاصيل الملموسة، مما يؤدي أحيانًا إلى تفكك أو حتى انهيار البنى الاجتماعية التي تراكمت عبر الزمن.
لتوضيح هذا المفهوم بشكل أعمق، يمكننا النظر إلى أعمال المعماري الفرنسي لو كوربوزييه، الذي يُظهر بوضوح هذه الفجوة بين التجريد إذا صح التعبير والواقع. ففي مشروعه "مخطط فويزن"، الذي اقترحه لإعادة تنظيم وسط باريس بعد الحرب العالمية الأولى، نجد مثالاً واضحاً على كيف يمكن للانبهار بالأفكار المتماسكة داخلياً أن يؤدي إلى إلغاء الواقع وتجاهل أمور أساسية فيه.
في تلك الفترة، كانت باريس تعاني من مشكلات حقيقية مثل التلوث والازدحام، مما جعل الحياة في المدينة صعبة وغير مريحة. وعلى الرغم من أن هذه التحديات تطلبت حلولًا جادة وواقعية، فإن رؤية لو كوربوزييه لحلها كانت متطرفة في تبني منطق عقلاني مجرد، حيث اعتمد بشكل شبه أعمى على القواعد الحسابية لتنظيم الواقع. بدلاً من أن يتعامل مع المدينة بروح تحترم تعقيدها التاريخي والاجتماعي، اقترح تدمير وسطها التاريخي واستبداله بمخطط هندسي متناسق يعتمد على أسس جيومترية مبسطة ونسب رياضياية متماسكة. هذه الرؤية، التي تجاهلت روح باريس، سعت إلى فرض منطق تجريدي متكامل متجاهلاً الكثير من تعقيدات الواقع.
هذا المخطط، الذي تميز بقياساته المحكمة وقوانينه البسيطة، كان يهدف إلى تسهيل إنتاج المباني على نطاق صناعي. بالنسبة للو كوربوزييه، كانت هذه البساطة المعمارية تجسد روح الإنسان الحديث والمعاصر، ورأى فيها المفتاح لتحقيق التحضر الحقيقي.
ففي تلك الفترة، ساد الاعتقاد بأن ما يمكن قياسه وحسابه فقط هو ما يمثل الحقيقة والواقع. هذه الفكرة ولدت من رحم الثورة الصناعية، التي سعت إلى أتمتة الإنتاج وضبط العمليات بدقة لتحقيق الكفاءة والربحية، وكذلك من العقلانية التنويرية التي اعتمدت على المنهجية العلمية التجريبية، معتبرة أن المعرفة الحقيقية تكمن في تحليل الظواهر وقياسها. ورغم أن هذه المنهجية تمثل أداة معرفية معتبرة، إلا أن الإشكالية تكمن في أن القياس الكمي أصبح في بعض الأوساط النهج الوحيد المقبول للوصول إلى الحقيقة، بغض النظر عن طبيعة الظاهرة المراد فهمها. وهذا كله ما تجسد بالفعل في تصميمات لو كوربوزييه، التي سعت إلى فرض واقع هندسي مبسط، يعتمد على ما يمكن قياسه وتحليله بسهولة.
لكن لم يسأل لو كوربوزييه السؤال الجوهري: هل تستطيع هذه القواعد المجردة، رغم تماسكها الهندسي، أن تستوعب تعقيد حياة الإنسان اليومية حقًا؟
لم يُطبق مشروع لو كوربوزييه على أرض الواقع، وربما كان ذلك لحسن حظ أهل باريس، لكن أفكاره تركت بصمة عميقة في الأوساط المعمارية وأثرت في الأجيال اللاحقة، ليس في أوروبا فحسب، بل على مستوى عالمي.
مشروع برازيليا، الذي صممه المعماريان أوسكار نيماير ولويس كوستا، يمثل نموذجًا واضحًا للفجوة بين التجريد والواقع. بُنيت المدينة من الصفر دفعة واحدة، مستندة إلى رؤى فكرية تجريدية مستوحاة من التفكير الحداثي الأوروبي. (مع الإشارة إلى أن هذه المشاريع كانت استيطانية ولم تُقم على أراضٍ خالية، بل على حساب السكان الأصليين، لكن هذا موضوع آخر.) تم تصميم المدينة وفق تصورات مستقبلية للتكنولوجيا، مثل الاعتماد الكبير على السيارات، إلى جانب اتباع قواعد تنظيمية نظرية فيما يتعلق بالتقسيمات الحضرية والمساحات العامة. استلهم نيماير وكوستا من هذه الرؤى ليصمما مدينة عصرية بمساحات واسعة وشوارع عريضة وتنظيم هندسي مبسط، إلا أن هذا التصميم أغفل الواقع اليومي واحتياجات السكان الفعلية للحياة الاجتماعية.
برازيليا، التي صُممت لتكون مدينة مثالية، أصبحت اليوم مثالاً على التناقض بين التصور المثالي والواقع المعاش. بُنيت المدينة على افتراض أن السيارة ستصبح العنصر الحتمي والأساسي في حياة السكان، ولكن النتيجة كانت مدينة تعاني من مشكلات حقيقية، أبرزها عدم قابليتها للمشي، حيث يشعر السكان بالانعزال نتيجة المسافات الشاسعة بين الأماكن المختلفة.
إذا نظرت إلى المدينة من الجو، سترى كيف حاول سكان برازيليا، من خلال توسعاتهم العشوائية، تجاوز المخطط الهندسي الضيق الذي وضعه نيماير وكوستا، مما يكشف عن عجز الواقع عن التكيف مع كل هذه الرؤى الذي وضعت في المخطط. هذا التناقض بين رؤية المعماريين للمدينة المستقبلية وواقع الحياة اليومية يفضح حدود النظريات الأحادية التي لا تفشل فعلا في مواجهة الواقع.
ما يثير استغرابي في مشروعي لو كوربوزييه ونيماير وكوستا، وكذلك في التيار الفكري الذي يمثلانه، هو أن أصحاب هذه الرؤى قدموها باعتبارها تعبيرًا عن الواقعية. لو كوربوزييه، على سبيل المثال، اعتبر أن التمسك بواقع باريس كما كان في ذلك الوقت يعكس نوعًا من الرومانسية أو النوستالجيا، فرأى أن رؤيته التجريدية أكثر واقعية وقادرة على مواجهة تحديات العصر. أما نيماير وكوستا، فاعتبرا انفتاحهما الكبير على التكنولوجيا نوعًا من البراغماتية، مما جعلهما يعتقدان أن تصورهما المثالي هو تجسيد للواقع المستقبلي. المدهش حقًا هو كيف تتحول هذه الرؤى التجريدية في أذهان أصحابها إلى ما يظنونه الواقع ذاته، في حين أن هذه المشاريع، عند طرحها، تكشف عن قصورها في التعامل مع الواقع الفعلي.
لاحظنا في المشاريع الأوروبية للتخطيط الحضري كيف يمكن للتجريد المفرط أن يؤدي ليس فقط إلى تجاوز الواقع، بل إلى تدميره أحيانًا. لكن هذه الإشكالية لا تقتصر على التخطيط الحضري وحده. في رأيي، هذه الظاهرة تخترق أيضًا بعض الاستكشافات المعرفية والأكاديمية التي نعيشها اليوم. كثيرًا ما أجد نفسي أقرأ أوراقًا أكاديمية عن عمان، غالبًا من إنتاج باحثين في جامعات غربية. تكون هذه الدراسات مدعومة بمصادر دقيقة ومنهجيات منطقية قوية، وتستند إلى نماذج معرفية غربية، سواء كانت رأسمالية أو ماركسية أو غيرها، في محاولتها لفهم المكان ورؤيته. على الورق، تبدو هذه الدراسات متماسكة ومقنعة، ولكن عندما أسير في شوارع عمان وأتفاعل مع واقعها اليومي، أشعر أن هذه الدراسات لا تتحدث عن المدينة التي أعيشها بالفعل.
هذا يمتد أيضًا إلى محاولات تأويل الظواهر السياسية من خلال أطر أيديولوجية جاهزة. عندما يحاول بعض الباحثين فهم أنظمتنا السياسية عبر هذه التأويلات، يصبح التركيز على ملاءمة الظواهر مع هذه الأطر أقوى من محاولة استيعاب الواقع الفعلي بكل ما يحمله من تعقيدات وتشابكات. رأيت ذلك بوضوح في دراسات تناولت الحالة الفلسطينية عبر نظريات نقدية طُورت في سياقات اجتماعية وسياسية وثقافية مختلفة تمامًا. سواء كانت هذه النظريات تنتقد الحداثة الغربية أو مستوحاة من تحليلات حركات تحررية مثل حركة السود في أمريكا أو حركات التحرر في أمريكا اللاتينية، فإنها، رغم بعض نقاط التقاطع، تتناقض في كثير من الأحيان مع جوانب جوهرية في القضية الفلسطينية. ومع ذلك، يستمر بعض الباحثين في محاولة تطويع هذا الواقع المعقد ليتوافق مع أطرهم الفكرية الجاهزة، مما يؤدي إلى تسطيح خصائص هذه الظواهر. فتختزل وتبسط لتلائم تلك القوالب النظرية، مما يُفقدها جزءًا كبيرًا من خصوصيتها وسياقها الفعلي، ويقلل من قدرتنا على فهم أبعادها الحقيقية بشكل عميق.
وهذا النهج يظهر بوضوح أيضًا في بعض أنماط التفكير في محيطنا، حيث يفتتن البعض بأيديولوجيات سياسية معينة إلى درجة تعميهم عن رؤية الواقع كما هو. في هذه الحالة، تصبح المسألة أشبه باستبدال نظام فكري بآخر، حيث تُفرض رؤية جديدة دون محاولة التعمق في ما هو موجود فعليًا أو فهمه بشكل دقيق. هذا الهوس بقولبة الأشياء وفرض الأطر الثابتة يؤدي إلى إخضاع الظواهر لمرجعيات جاهزة لا تستوعب الخصوصيات والتفاصيل المميزة لكل حالة. ونتيجة لذلك، يتقيد الفهم الحقيقي للواقع، وتضيع الفرصة للتأثير فيه أو البناء عليه بطرق تتناسب مع تعقيداته وظروفه الخاصة.
قد يؤدي هذا النهج، في مرحلة ما، إلى صدام عنيف مع الواقع عند محاولة ترجمته إلى أفعال ملموسة. ففي كثير من الأحيان، تتطلب هذه الرؤى "تصفير" الواقع، أي التخلص من كل ما هو قائم خارج الإطار الفكري المحدد الذي يتم طرحه، لجعل التعامل معه أكثر سهولة. مثل هذه المقاربات تتجاهل التفاعل الديناميكي مع الواقع القائم، وتعيق قدرتنا على فهمه وتعزيز ما هو موجود فيه أصلاً. وبدلاً من التعامل مع الواقع ككيان حي يتطلب مقاربات مرنة ومبدعة، نجد أنفسنا نحاول تطويعه ليتناسب مع تصوراتنا المسبقة، مما يبعدنا عن القدرة الحقيقية على تغييره بفعالية أكبر.
ومع ذلك، الفكرة ليست في إلغاء كل ما هو تجريدي أو خارجي، بل في إيجاد نوع من التوازن. ففي مرحلة ما، تصبح هذه المدخلات التجريدية أدوات تحرك الواقع بدلًا من أن تُخضعه له، لكن السؤال الجوهري يكمن في كيفية خلق توازن يتيح لنا التفاعل مع الواقع بفاعلية وديناميكية.
في هذا السياق، تستوقفني محاولة تعريف الكتابة السياسية التي طرحها عبد الرحمن منيف في رسائله لفيصل دراج. كان منيف يسعى جاهدًا لتأكيد قدرة الكتابة على إحداث تغيير حقيقي في الواقع. وفي وصفه للكتابة، قال: "السلاح الوحيد: الكلمة. وإذا اعتبرنا أن الموقف – السلوك، سلاح آخر، فلا بد أن نجعل سلوكنا قريبًا مما نقوله، مما نكتبه، إذا لم نستطع أن نطابق بينهما تمامًا، وعندئذ نرد الاعتبار لأشياء يمكن أن تكون طريقًا لنا ولغيرنا، ويمكن أن تحمينا وتحمي غيرنا."
ما يلفت النظر في طرح منيف هو تأكيده على أن تناسق السلوك مع الكتابة هو العامل الحاسم في إثبات جدوى الكتابة وحقيقتها. بالنسبة له، لا يكفي أن تكون الكتابة، سواء كانت تحليلية أو طرحية، مجرد نشاط فكري منفصل عن الواقع؛ بل إن قوتها الحقيقية تنبع من انسجامها مع سلوك الكاتب وتفاعلها مع الحياة اليومية. في هذا السياق، تصبح الكتابة ليست مجرد عملية تجريدية منعزلة، بل جزءًا حيًا من الواقع ذاته، تتفاعل معه وتساهم في تحريكه.
هذا الفهم يضفي على الكتابة بُعدًا عمليًا، يجعلها أداة لإحداث التغيير، بدلاً من أن تكون مجرد انعكاس فكري بعيد عن الواقع. وبهذا المعنى، لا يستمد النص المكتوب قيمته من بنيته الداخلية فقط، بل من مدى تماسكه مع الواقع - بل ومع الفعل أيضاً.
هذه الفكرة تتجلى أيضًا في نص جبرا إبراهيم جبرا "الفن والحلم والفعل"، حيث ينتقد جبرا الطروحات الفنية التي تنحصر في استعادة لحظات من الماضي بمعزل عن الواقع، كما في أعمال مارسيل بروست، الذي في مواجهته للدمار الناتج عن الحداثة الأوروبية سعى لاستعادة رومانسيات الماضي. جبرا لم يقتنع تمامًا بهذا الانفصال، وكان يتساءل عن إمكانية إيجاد نقطة التقاء بين "الفن والحلم والفعل"، بحيث يتم تجاوز النظرة التي تفصل بينهم، ويتم دمجهم في رؤية متكاملة تعيد هذه العناصر إلى الواقع بشكل فعّال.
جبرا يوضح ذلك من خلال تأملات في تاريخ الشعر العربي، مستشهدًا ببيت المتنبي "الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم"، الذي يعبر عن حلم المتنبي بالبطولة والمجد. هذه الكلمات، التي كانت في البداية تعبيرًا عن طموح مستقبلي حالم، أصبحت فيما بعد مرتبطة بشكل مباشر بواقعه. يُقال إنه أثناء محاولته الهرب من كمين، ذكره أحدهم بهذا البيت، مما دفعه للعودة إلى المعركة ومواجهة الموت بدلًا من النجاة. في هذه اللحظة، لم يعد الكلام مجرد تعبير شعري أو حلم بعيد عن الواقع، بل تحول إلى جزء من مجريات الأحداث نفسها، واتحد بشكل كامل مع الواقع، مؤثرًا في قرار المتنبي ومصيره.
جبرا يعطي أيضًا مثال مقاومة فلسطينية كانت تقاتل في صفوف المعركة وفي الوقت نفسه تكتب الشعر، مما أضفى على شعرها معاني أعمق وأقوى بكثير مما لو كان مكتوبًا دون أن يترافق مع الفعل. وربما من أجمل الأمثلة التي قدمها هو مثال سندباد، ذلك المغامر الذي كانت مغامراته تجدد الواقع وتبعث فيه أبعادًا جديدة. في هذا السياق، الأحلام لم تكن مجرد تصورات بعيدة عن الواقع، بل كانت تنبثق أساساً من قلب المغامرة والفعل.
النص القرآني يتميز بحكمته وتفاعله الحي مع الواقع على مدار 25 عامًا من التنزيل. ومع ذلك، يغفل بعض المفكرين عن هذه الديناميكية، فيتعاملون معه كأنه نص ثابت، متناسين أنه لم ينزل دفعة واحدة، بل تدرج ليتماشى مع التطورات الواقعية. هذا التدرج منح النص قدرة فريدة على الدمج بين التجريد والتطبيق والإلهام المستمر. فالقرآن لم يكن منعزلًا عن الواقع، بل كان يفسره ويعايشه باستمرار، حتى أن الواقع أحيانًا كان يمثل آية من آياته. ومن خلال استيعابه العميق للواقع، بث القرآن روح الإبداع فيه لا عبر الإسقاط بل عبر البناء، مكملًا لما هو حسن ومصلحًا ما يحتاج إلى إصلاح ودعا إلى التخلي عن ما ليس ضروريًا أو خيراً. أساسا كل هذا تم دون الحاجة إلى البدء من الصفر، كما جاء في الحديث النبوي: "إني جئت لأتمم مكارم الأخلاق."
إن محاولة فرض التجريد على الواقع بالقوة تؤدي إلى قطيعة تعيق الاستفادة من الفرص الحقيقية للبناء والتراكم، وتفصلنا عن الخبرات المتراكمة في الواقع. تحليل عبد الوهاب المسيري للفرق بين "الثورة" و"الانتفاضة" يقدم مدخلاً لفهم هذه الفكرة بشكل أوضح. فالثورة، بحسب المسيري، تنطلق من المنظومات الحداثية وتعتمد على القطيعة التامة مع الماضي من أجل بناء نظام جديد تمامًا من الصفر. بمعنى آخر، الثورة تتطلب هدم كل شيء للبدء من جديد.
على النقيض، الانتفاضة تمثل تجديدًا لما هو موجود، فهي لا تسعى إلى هدم كامل، بل للبناء على ما هو قائم (مثل الوجود الفلسطيني المستمر لآلاف السنين) مع إزالة ما يجب إزالته (كالاحتلال الصهيوني). فهي عملية ”نفض“ أساساً.
في هذا السياق، الانتفاضة، التي استندت إلى بنى معرفية غير حداثية، وقامت على مفاهيم مثل العودة إلى الأرض و التركيز على الاكتفاء الذاتي وأخد المرجعية في بعض الممارسات الفلسطينية القائمة، والبناء على المنظومات الاجتماعية الفلسطينية السائدة، لم ترى أن الإبداع كان يأتي من تدمير الواقع أو زعزعته. بل أنه يكمن في عملية البناء والتجديد وإحياء جوانب من الواقع واحترام الخبرات المتراكمة على مر الزمن المجسدة في هذا الواقع. فهل يمكن أن يكون لتحرير فلسطين قيمة إذا كان يحصل أصلا من خلال تدمير تاريخها الممتد وفكفكة كل ما هو قائم في نسيجها وبنيتها أساساً؟
إن هذه التأملات عن العلاقة بين التجريد والواقع ليست مجرد تأملات بمعضلة معرفية أو فلسفية بحتة، بل قضية مبدئية. فهي تتعلق بشكل جوهري بكيفية فهمنا لأنفسنا وموقعنا داخل هذه المعادلة. عندما نبدأ في رؤية أنفسنا كجزء لا يتجزأ من هذا الواقع، نفهم أن الانفصال عنه ليس خيارًا متاحًا. لا يمكننا فرض رؤى مسبقة أو تجريدات عقلية مفصولة عن جوهره الحي. فالحلم والتجريد الحقيقيين لا يمكن أن يكونا محاولات للهروب من الواقع أو السيطرة عليه، بل هما تجليات للإبداع الذي ينبع من تفاعل عميق مع العالم كما هو.
الإبداع الحقيقي هو ذلك الذي لا يسعى لفرض قطيعة مع ما هو قائم، بل يحتضن تعقيداته ويعمل على تجديده ودفعه نحو آفاق جديدة. إنه تراكم للخبرات والرؤى التي لا تسعى إلى إعادة تشكيل الواقع وفق معايير مثالية بحتة، لا سياق لها، بل تعمل معه، تفتح مسارات جديدة فيه، وتبقي على التوازن بين ما هو موجود وما يمكن أن يكون. هنا فقط يمكننا الوصول إلى إبداع حقيقي؛ إبداع لا يتعالى على الواقع، بل ينبع من قلبه، ويتفاعل معه بأفق مفتوح.
1. جبرا إبراهيم جبرا، 1986. الفن والحلم والفعل. بيروت: دار الآداب.
2. عبد الرحمن منيف، 2012. رسائل عبد الرحمن منيف إلى فيصل دراج. [متاح عبر الإنترنت]
https://alantologia.com/blogs/4816/
3. عبد الوهاب المسيري، 2000. الإنسان والحضارة: الانتفاضة كنموذج مركب. القاهرة: دار الشروق.
1. خطة فوازين للوكوربوزييه:
Le Corbusier, 1925. Plan Voisin model. [Online] Available at: https://commons.wikimedia.org/wiki/File:Plan_Voisin_model.jpg [Accessed 3 September 2024].
2. المخطط الرئيسي للوسيو كوستا لمدينة برازيليا:
Costa, L., 1957. Original master plan for Brasília. [Online] Available at: https://criticallegalthinking.com/2019/06/12/brasilia-constituent-power-architecture-urban-planning/ [Accessed 3 September 2024].
3. صورة فضائية لمدينة برازيليا:
Maxar Technologies, 2020. Satellite image of Brasília center and surrounding urban area. Google Earth. [Online] Available at: https://www.researchgate.net/figure/Satellite-image-of-Brasilia-center-right-and-the-surrounding-urban-area-Google-Earth_fig1_347540051 [Accessed 3 September 2024].
4. منظر جوي لمدينة برازيليا:
Niemeyer, O., 1960. Aerial view of Brasília showcasing the Monumental Axis. [Online] Available at: https://www.kayak.com/Brasilia.17187.guide [Accessed 3 September 2024].